سورة ص - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


{أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر} أي القرآن {مّن بَيْنِنَا} ونحن رؤساءُ النَّاسِ وأشرافُهم كقولهم: {لولا نزِّل هذا القرآنُ على رجلٍ من القريتينِ عظيمٍ} ومرادهم إنكارُ كونه ذكراً منزَّلاً من عند الله عزَّ وجلَّ كقولهم: (لو كان خيراً ما سبقُونا إليه) وأمثالُ هذه المقالاتِ الباطلة ودليلٌ على أنَّ مناطَ تكذيبهم ليس إلاَّ الحسدُ وقِصرُ النَّظرِ على الحُطام الدنيويِّ {بْل هُمْ فَى شَكّ مّن ذِكْرِى} أي من القرآنِ أو الوحي لميلهم إلى التَّقليدِ وإعراضِهم عن النَّظرِ في الأدِلَّةِ المؤدِّية إلى العلمِ بحقِّيتِه وليس في عقيدتِهم ما يبتُّون به فهم مذبذبون بين الأوهامِ ينسبونه تارةً إلى السِّحرِ وأخرى إلى الاختلاقِ {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} أي بل لم يذوقُوا بعد عذابي فإذا ذاقُوه تبيَّن لهم حقيقةُ الحال، وفي لمَّا دلالةٌ على أنَّ ذوقَهم على شرف الوقوع والمعنى أنهم لا يصدّقون به حتى يمسَّهم العذاب وقيل لم يذوقوا عذابَى الموعودَ في القرآنِ ولذلك شكُّواً فيه {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ العزيز الوهاب} بل أعندهم خزائنُ رحمتِه تعالى يتصرَّفون فيها حسبما يشاءون حتَّى يُصيبوا بها من شاءوا ويُصرفُوها عمَّن شاءوا ويتحكَّموا فيها بمقتضي آرائِهم فيتخيَّروا للنُّبوةِ بعضَ صناديدهم. والمعنى أنَّ النُّبوةَ عطيةٌ من الله عزَّ وجلَّ يتفضَّلُ بها على مَن يشاءُ من عباده المصطَفينَ لا مانع له فإنَّه العزيزُ أي الغالبُ الذي لا يُغالب الوهَّابُ الذي له أنْ يهبَ كلَّ ما يشاءُ لكلِّ مَن يشاءُ. وفي إضافةِ اسم الربِّ المنبىء عن التَّربيةِ والتَّبليغِ إلى الكمال إلى ضميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من تشريفه واللُّطفِ به ما لا يَخْفى، وقولُه تعالى: {أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا} ترشيحٌ لما سبق أي بل ألهُم ملكُ هذه العوالمِ العُلويةِ والسُّفليةِ حتَّى يتكلَّموا في الأمورِ الرَّبانيةِ ويتحكَّموا في التَّدابيرِ الإلهيةِ التي يستأثرُ بها ربُّ العزَّةِ والكبرياءِ. وقوله تعالى: {فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاسباب} جوابُ شرطٍ محذوفٍ أي إنْ كان لهم ما ذُكر من الملك فليصعدُوا في المعارجِ والمناهج التي يتوصَّلُ بها إلى العرشِ حتَّى يستووا عليه ويدبِّروا أمر العالم ويُنزلوا الوحَي إلى مَن يختارون ويستصوبوُن وفيه من التَّهكُّمِ بهم ما لا غايةَ وراءه. والسَّببُ في الأصل هو الوصلةُ وقيل: المرادُ بالأسبابِ السَّمواتُ لأنَّها أسبابُ الحوادثِ السُّفليةِ وقيل أبوابُها. {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الاحزاب} أي هم جندٌ ما من الكُفَّارِ المتحزِّبين على الرُّسلِ مهزومٌ مكسورٌ عمَّا قريب فلا تُبالِ بما يقولون ولا تكترثْ بما يهذُون. ومَا مزيدةٌ للتَّقليلِ والتَّحقيرِة نحو قولِك أكلتُ شيئاً ما، وقيل: للتَّعظيمِ على الهُزءِ. وهنالك إشارةٌ إلى حيثُ وضعُوا فيه أنفسَهم من الانتدابِ لمثل ذلك القولِ العظيمِ.


وقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الاوتاد} إلخ استئناف مقررٌ لمضمون ما قبله ببيانِ أحوالِ العُتاةِ الطُّغاةِ الذين هؤلاءِ جندٌ ما جنودهم ممَّا فعلوا من التَّكذيبِ وفعل بهم من العقابِ. وذُو الأوتادِ معناه ذُو المُلك الثَّابتَ أصلُه من ثبات البيت المطنَّبِ بأوتادِه فاستُعير لثبات الملكِ ورسوخِ السَّلطنةِ واستقامةِ الأمرِ. قال الأسودُ بن يَعْفُر:
وَلَقَد غَنُوا فيها بأَنْعمِ عِيْشة *** فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابتِ الأَوْتَادِ
أو ذُو الجموع الكثيرةِ وسُمُّوا بذلك لأنَّ بعضَهم يشدُّ بعضاً كالوتدِ يشدُّ البناءَ وقيل: نصبَ أربعَ سوار وكان يمدُّ يَدَيْ المعذَّبِ ورجليه إليه ويضربُ عليها أوتاداً ويتركُه حتَّى يموتَ. وقيل: كان يمدُّه بين أربعةِ أوتادٍ في الأرض ويرسلُ عليه العقاربَ والحيَّاتِ. وقيل: كانت له أوتادٌ وحبالٌ يلعب بها بين يديِه {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وأصحاب الئيكة} أصحابُ الغَيضةِ من قومِ شُعيبِ عليه السَّلامُ وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الاحزاب} إمَّا بدلٌ من الطَّوائفِ المذكورة كما أنَّ ذلك الكتابُ بدلٌ من ألم على أحدِ الوجوه وفيه فضلُ تأكيدٍ وتنبيهٌ على أنَّهم الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم وقوله تعالى: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل} استئنافٌ جيء به تقريراً لتكذيبِهم وبياناً لكيفَّيتِه وتمهيداً لما يعقُبه أي ما كلُّ أحدٍ من آحادِ أولئكَ الأحزابِ أو ما كلُّ حزبٍ منُهم إلا كذَّبَ الرُّسلَ لأنَّ تكذيبَ واحد منهم تكذيبٌ لهم جميعاً لاتِّفاقِ الكلِّ على الحقِّ. وقيل ما كلُّ حزبٍ إلاَّ كذَّب رسولَه على نهجِ مقابلةِ الجمعِ بالجمعِ، وأيَّاً ما كان فالاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ العام في خبر المبتدأ، أي ما كلُّ أحدٍ منهم محكوماً عليه بحكم إلا محكومٌ عليه بأنه كذَّب الرُّسلَ وقيل ما كلُّ واحدٍ منهم مُخبَراً عنه بخبرٍ إلا مخَبرٌ عنه بأنَّه كذَّب الرُّسلَ وفي إسناد التَّكذيبِ إلى الطَّوائفِ المذكُورةِ على وجهِ الإبهامِ أوَّلاً والإيذانِ بأنَّ كُلاَّ منهم حزبٌ على حيالِه تحزَّب على رسولِه ثانياً وتبيينِ كيفيةِ تكذيبِهم بالجملةِ الاستثنائيةِ ثالثاً فنونٌ من المبالغة مسجَّلةٌ عليهم باستحقاقِ أشدِّ العذابِ وأفظعِه ولذلك رُتِّب عليه قولُه تعالى: {فَحَقَّ عِقَابِ} أي ثبتَ ووقعَ على كلَ منُهم عقابي الذي كانتْ تُوجبه جناياتُهم من أصنافِ العقوباتِ المفصَّلةِ في مواقَعِها وإما مبتدأٌ. وقوله تعالى: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل} خبرُه بحذفِ العائدِ أي إنْ كلٌّ منهم إلخ والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لما قبله مؤكِّدٌ لمضمونِه مع ما فيه من بيانِ كيفيةِ تكذيبهم والتَّنبيهِ على أنَّهم الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم كما ذُكر وقيل: هو مبتدأٌ وخبرٌ، والمَعنْى أنَّ الأحزابَ الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم هُم هُم وأنَّهم الذينُ وجد منهم التَّكذيبُ فتدبَّر. وأمَّا ما قيل مِن أنَّه خبرٌ والمبتدأُ قوله تعالى: {وَعَادٌ} إلخ أو قوله: {وَقَوْمُ لُوطٍ} إلخ فممَّا يجب تنزيُه ساحةِ التَّنزيلِ عن أمثالِه.


{وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء} شروعٌ في بيان عقابِ كُفَّارِ مكَّة إثر بيانِ عقابِ أضرابِهم من الأحزابِ الذين أُخبر فيما سبقَ بأنَّهم جندٌ حقيرٌ منهم مهزومٌ عن قريبٍ فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ انتظارَ السَّامعِ وترقبه إلي بيانه قطعاً، وفي الإشارةِ إليهم بهؤلاء تحقيرٌ لشأنِهم وتهوينٌ لأمرِهم، وأمَّا جعلُه إشارةً إلى الأحزابِ باعتبارِ حضورِهم بحسبِ الذِّكرِ أو حضورِهم في علمِ الله عزَّ وجلَّ فليس في حيِّزِ الاحتمالِ أصلاً كيف لا والانتظار سواءٌ كان حقيقةً أو استهزاءً إنَّما يُتصوَّو في حقِّ من لم يترتب على أعمالِه نتائَجُها بعْد، وبعدَ ما بيّن عقابُ الأحزابِ واستئصالُهم بالمرَّةِ لم يبقَ ممَّا أُريد بيانُه من عقوباتهم أمرٌ منتظرٌ وإنَّما الذين في مرصدِ الأنتظارِ كفَّارُ مكَّةَ حيث ارتكبُوا من عظائمِ الجرائم وكبائرِ الجرائرِ الموجبة لأشدِّ العقوباتِ مثلَ ما ارتكب الأحزابُ أو أشدَّ منه ولمَّا يلاقوا بعد شيئاً من غوائلِها أي وما ينتظُر هؤلاءِ الكَفَرةُ الذين هم أمثالُ أولئك الطَّوائفِ المهلكة في الكُفرِ والتَّكذيبِ {إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} هي النَّفخةُ الثَّانيةُ لا بمعني أنَّ عقابهم نفسُها بما فيها من الشِّدَّةِ والهَوْلِ فإنَّها داهيةٌ يعمُّ هولُها جميعَ الأُممِ برَّهاً وفاجرِها بل بمعنى أنَّه ليس بينهم وبين حلولِ ما أُعدَّ لهم من العقاب الفظيعِ إلاَّ هي حيثُ أُخِّرتْ عقوبتُهم إلى الآخرةِ لما أنَّ تعذيبَهم بالاستئصال حسبما يستحقُّونه. والنَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بين أظهرهم خارجٌ عن السُّنَّةِ الإلهيَّةِ المبنية على الحكم الباهرةِ كما نطقَ به قولُه تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} وأمَّا ما قيل: مِن أنَّها النَّفخةُ الأَولى فممَّا لا وجهَ له أصلاً لما أنَّه لا يشاهدُ هولَها ولا يُصعقُ بها إلاَّ من كانَ حيَّاً عند وقوعِها وليس عقابُهم الموعودُ واقعاً عقيبها ولا العذابُ المطَلقُ مؤخَّراً إليها بل يحلُّ بهم من حينِ موتِهم {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} أي من توقُّفٍ مقدار فَوَاقٍ وهو ما بين الحَلْبتينِ. وقرئ بضمِّ الفاءِ وهُما لغتانِ. وقولُه تعالى: {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} حكاية لما قالُوه عند سماعِهم بتأخير عقابهم إلى الآخرةِ أي قالوا بطريق الاستهزاء والسُّخريةِ عجِّل لنا قطَّناً من العذابِ الذي تُوعدنا به ولا تؤخره إلى يومِ الحسابِ الذي مبدؤه الصَّيحةُ المذكورةُ. والقطُّ: القطعةُ من الشَّيءِ من قطَّه إذا قطَعه، ويقالُ لصحيفةِ الجائزةِ قطٌّ لأنَّها قطعةٌ من القرطاسِ، وقد فسِّر بها أي عجِّل لنا صحيفةَ أعمالِنا لننظرَ فيها. وقيل ذكرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعدَ الله تعالى المؤمنينَ الجنَّة فَقالُوا على سبيلِ الهُزءِ به عجِّلْ لنا نصيبنَا منها. وتصديرُ دُعائِهم بالنِّداءِ المذكورِ للإمعانِ في الاستهزاءِ كأنَّهم يدعُون ذلك بكمالِ الرَّغبةِ والابتهالِ.
{اصبر على مَا يَقُولُونَ} من أمثالِ هذه المقالاتِ الباطلةِ {واذكر} لهم {عَبْدَنَا دَاوُودُ} أي قصَّته تهويلاً لأمرِ المعصيةِ في أعينهم وتنبيهاً لهم على كمالِ قُبح ما اجترؤُا عليه من المَعاصي فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع علوِّ شأنِه واختصاصِه بعظائمِ النِّعمِ والكراماتِ لمَّا ألمَّ بصغيرةٍ نزلَ عن منزلتِه ووبَّخْته الملائكةُ بالتَّمثيلِ والتَّعريضِ حتَّى تفطَّنَ فاستغفرَ ربَّه وأنابَ ووُجد منه ما يُحكى من بكائِه الدَّائبِ وغمِّه الواصبِ وندمِه الدَّائمِ فما الظنُّ بهؤلاءِ الكَفَرةِ والأذلِّينَ من كلِّ ذليلٍ المرتكبينَ لأكبرِ الكبائرِ المصرِّين على أعظمِ المَعَاصي أو تذكَّر قصَّته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وصُنْ نفسَك أنْ تزلَّ فيما كُلِّفت من مصابرتِهم وتحمُّلِ أذيَّتهم كيلا يلقاكَ ما لقيه من المعاتبةِ {ذَا الايد} أي ذَا الُقوَّة يقال فلانٌ أيدٌ وذُو أيدٍ وآدٌ بمعنى، وإيادُ كلِّ شيءٍ ما يُتقوَّى بهِ {إِنَّهُ أَوَّابٌ} رجَّاعٌ إلى مرضاةِ الله تعالى وهو تعليلٌ لكونِه ذَا الأيدِ ودليلٌ على أنَّ المرادَ به القَّوةُ في الدِّينِ فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يصومُ يوماً ويفطرُ يوماً ويقوم نصفَ اللَّيلِ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8